عندما يرتد العدو عن عقيدته التي من أجلها جاء وقاتل؛ فإن ذلك يعني أن الهزيمة النفسية لديه قد بلغت النهاية.
والردة هنا ليست تعبيراً مجازياً .. بل هي حقيقة دينية عند الصهاينة، فهم يسمون العودة من أرض الميعاد ردة، وهي كذلك إذا علمنا أن الهجرة إلى أرض الميعاد هي الأُسطورة التي بنيت عليها العقيدة الصهيونية كلها، واليهودي يعبر عن إيمانه بقدر حبه لهذه الأرض، وحنينه الدائم إليها، ليس لمجرد أنها الأرض المباركة التي اختصهم الله بها - كما يدعون- بل لأنها أيضاً تفيض لبناً وعسلاً كما جاء في التوراة.
ومن هنا لاحظ المراقبون أن الدولة اليهودية بكل فئاتها تحاول التعمية أو التحفظ على أرقام المهاجرين منها، مثلما تفعل بالنسبة لأرقام القتلى والجرحى أو أكثر.
لقد كان الخوف من تكاثر العرب -الذي يقلب ميزان التوازن السكاني فيها- هو أكبر المشكلات، وقديماً قالت جولدا مائير: "إن الفلسطينيين يتكاثرون كما تتكاثر الأرانب" حتى جاءت الانتفاضة المباركة فأصبحت تلك المشكلة بمثابة الطامة الكبرى!
كان اليهود يتوقعون وفقا ًلمعدلات النمو السكاني أن يصبحوا عام (2020م) أقلية بين العرب، وكان ذلك يفزعهم، وينذر بمصير مشئوم لدولتهم حين نشروا ذلك قبيل اشتعال الانتفاضة، وهذا التشاؤم في محله؛ لأن عشرين سنة في عمر الأمم ليست شيئاً مذكوراً، أما الآن فالوضع لم يعد يحتمل بل هو مخيف للغاية، فالانتفاضة أوجبت خفض الأرقام والتقديرات لكي تكون النهاية أقرب بكثير، قد يكون عام (2010م) مثلاً، وهذا كابوس مرعب لا يطيقون مجرد التفكير فيه، فماذا تقول لغة الأرقام ؟
يبلغ عدد العرب داخل الأرض المحتلة قبل (1967م) مليوناً وثلاثمائة ألف أول عام (2002م)، وسيبلغون عام (2020م) مليونين ومائة ألف، أما سكان الضفة والقطاع فإن عددهم يزيد سنوياً بمقدار (180) ألف نسمة وهي تقارب عدد المستوطنين الذين تجمعوا فيها من اليهود مدة (34) عاماً، فهم يقدرون بحوالي (200,000) مستوطن أنفقت الدولة عليهم مليارات الدولارات، غير الخسائر البشرية !!
وبعد اشتعال الانتفاضة انتشر الرعب في المستوطنات، وبدأت الهجرة إلى داخل ما يسمى الخط الأخضر، وأطلقت الصحافة اليهودية لقب " مستوطنات الأشباح " على ذلك العدد الكبير الذي أخلي منها أو كاد، وأورد بعضها أن نسبة المهاجرين منها بلغت (40%) أي: أن إسرائيل تحتفظ باحتلال الضفة والقطاع، وتتكلف الخسائر الهائلة مادياً وبشرياً ومعنوياً من أجل (120,000) يهودي فقط هم سكان المستوطنات!!
وهذا ما عبر عنه حرفياً أكثر من ناطق من مؤيدي الانسحاب من طرف واحد، والعودة إلى حدود ما قبل الاحتلال، ومنهم اليسار كله، والمنظمات المؤيدة للسلام.
لكن رافضي الانسحاب يردون على ذلك بأن الانتفاضة شملت كل المناطق داخل الخط الأخضر أيضاً، وأن الهجرة إلى داخل الخط ما هي إلا تمهيد للرحيل نهائياً عن البلاد، أي: الردة!
والردة تشمل من كان داخل الخط ومن كان خارجه وهذه هي الكارثة!!
جاء في تقرير حديث لوكالة الأنباء الإسرائيلية، وعلقت عليه الجرائد: أن الحياة في إسرائيل تعطلت أو تدهورت إلا شيئاً واحداً فقط وهو: السفر للخارج، فقد بلغ عدد المسافرين سنة (2002م) ثلاثة ملايين وستمائة ألف. (طبيعي أن يعود أكثرهم لكن من سيبقون كثر ).
وهذا يؤكد ما قاله مراقبون غربيون من أن المهاجرين المرتدين بلغوا في السنة والنصف الأولى من الانتفاضة مليون مرتد !!
والأرقام الرسمية تعترف بـ (600.000) فقط !! لكن بعض الجرائد اليهودية مثل معاريف ترجح المليون، على أن للمشكلة مضاعفات أخرى تتمثل في أمور:-
- أن الانتفاضة لم تؤد فقط إلى هجرة من الداخل بل هبطت بنسبة المهاجرين إلى الأرض المحتلة من الخارج إلى أدنى مستوياتها. والمثال الواضح لذلك هم اليهود المهاجرون من الاتحاد السوفييتي المتفكك الذين كانت الدولة اليهودية تعتبرهم أكبر مدد لها خلال عقد كامل، فقد بلغت نسبة انخفاض عددهم بعد الانتفاضة (77%) لقد استمعوا إلى نصائح من هاجر قبلهم الذين حذروهم من الخوف والتمييز العنصري أيضاً، وأخذت أنظارهم تتجه نحو أمريكا فهناك فرص الأمن والرخاء أكثر كما عبر بعضهم، وإذا كان عام (2001) هو الأسوأ -باعترافهم- في تاريخ الهجرة اليهودية إلى إسرائيل؛ فإن يديعوت أحرونوت قد ذكرت أن عام (2002م) أسوأ منه حيث هبط عدد المهاجرين إلى إسرائيل فيه بنسبة (23%) مقارنة بعام (2001م)!!
- أن كثيرا من الإسرائيليين يحملون جنسيات مزدوجة. فالأستاذ بجامعة (ابن جوريون) آلون غال يقول: "إن إسرائيل مزبلة ليهود أمريكا، وهناك أكثر من (600.000) ممن يحمل الجنسية الإسرائيلية يعيشون في أمريكا مع أنهم معدودون ضمن المواطنين الإسرائيليين، منهم (200.000) في نيويورك وحدها ".
- قال أحد المعلقين الغربيين: "إن إسرائيل تنضم إلى الاتحاد الأوروبي لا كدولة ولكن كأفراد "وهذا ما دفع (الكنيست) إلى اقتراح مشروع ضريبة على الإسرائيلي الذي يقيم خارج إسرائيل حتى إذا عاد رفعت عنه ( هذا المشروع طرح في رمضان الماضي).
وهناك مناظرة طريفة نشرها أحد المواقع الإعلامية اليهودية بين يهوديين أحدهما أمريكي والآخر إسرائيلي هاجر إلى أمريكا:
قال الأول الأمريكي: لماذا تعودون إلى هنا ونحن ندفع لكم الدولارات يومياً؟
فقال الآخر: أنا خدمت في الجيش والآن جاء دوركم اذهبوا إلى هناك ونحن نعدكم أن ندفع لكم !!
- مما يضاعف المشكلة: أن المهاجرين هم من الطبقة المثقفة والغنية، وعلى ذلك تعلق هآرتس قائلة: " إن هجرة مليون يهودي غني أمر متوقع" وتشير إلى أنه إذا غادر هؤلاء بأموالهم، وذهب كذلك أصحاب الخبرات والمهن الراقية "فلن يبقى في البلاد إلا العمال والفقراء والمجندين، وتتحول إسرائيل إلى دولة من العالم الثالث".
ومما يؤيد ذلك: أن المسئولين أنفسهم -ومنهم الوزراء وقادة الجيش- يبعثون أبناءهم وعائلاتهم ليعيشوا خارج البلاد ولا سيما في أمريكا. ويذكر الإعلام اليهودي نماذج لهؤلاء فمنهم مثلاً:
يوفال بن إسحاق رابين، وأوريت حفيدة مناحيم بيجن وتالي بنت بنيامين إليعازر، وميكال بنت إيهود باراك، وأرييل ابن الوزير روني ميلو، إيجال بن موشيه أرينـز، وأخيراً حفيدة العالم المشهور إينشتاين التي هاجرت قبل أقل من شهر، وقالت في مقابلة مع جريدة جورشاليم بوست :
" إن واقع هذه البلاد يختلف تماماً عما كانت تعتقد، ولهذا لابد من أن نهاجر " !!
وتعلق الجريدة على هذا قائلة: " أكثر الإسرائيليين فقدوا الأمل في المستقبل ".
أما في هآرتس فقد أوجزت المسألة في شكل تساؤل:
" في أي دولة في العالم يقتل اليهود يومياً إلا هذه الدولة "
أي أن الهجرة إلى أي بلد في العالم هي أفضل من البقاء، وهذه الحقيقة لم تعد حكراً على فئة من المراقبين، بل تحولت إلى حجة قضائية لدى دول بعيدة، فقد ارتد أحد المهاجرين الأرجنتينيين، واختطف ابنه وهرب به معه إلى بلده الأول، وحينما رفعت الأم التي بقيت في إسرائيل قضية ضده مطالبة بابنها، حكمت المحاكم الأرجنتينية عليها بحجة أن إسرائيل بلد غير آمن.
إن كل متابع للأزمة اليهودية يجد أن هذه الدولة تعيش أزمة وجود وليس أزمة ضعف أو قوة، فالخيارات في نفسها متناقضة، ولا يوجد حل حقيقي لا عند المطالبين بالانسحاب والتخلي عن المستوطنات كلية، ولا عند المطالبين بالاحتفاظ بها، والالتفاف على الفلسطينيين بمشروعات مثل الجدار الفاصل؛ لأن الانتفاضة طعنت في العمق .. في القلب ذاته، وتهدد الكيان في أصل وجوده، فالذين يطالبون بالانسحاب من طرف واحد يقولون: " إن السلام والأمن لستة ملايين إسرائيلي وثلاثة ملايين فلسطيني هو الآن رهينة لأمن (300) ألف مستوطن إسرائيلي في الضفة وغزة "
وهذا حق ولكن: هل نقل كل المستوطنين -مع التحفظ على الرقم- إلى داخل المناطق المحتلة سنة (1948م) يحل المشكلة الأمنية ؟
أعتقد بكل ثقة أنه لا أحد يوقن بهذا لا من هؤلاء ولا من هؤلاء.
ولو رجعنا إلى كبير الأطباء النفسيين في الجيش اليهودي لوجدنا تعليلاً نفسياً لهذا الجدل والتناقض الدائرين في حلقة مفرغة، يقول "روبن غال ":
"إن حدة الاختلاف في القرارات السياسية هي مجرد تعبير خارجي للتوتر والخوف والقلق الداخلي ".
ويقول: " لم نشهد مثل هذا الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي من قبل .. هناك من يريد قتل جميع الفلسطينيين! وهناك من يرى التخلي لهم عن الأرض بلا شروط! ".
ويضيف: " مع أن الكلام حول السياسة عادة ممنوع أثناء العلاج النفسي .. لكن هنا في إسرائيل أصبح من المألوف أن المعالج لابد له من الحديث مع المريض ويسأله هل ترى هناك من أملٍ في نهاية المطاف؟!
إن الطبيب يفعل ذلك لأنه لم يعد بالإمكان الفصل بين الوضع والتوتر الشخصي الخاص ".
وهذا ما عبرت عنه إحدى استطلاعات الرأي في "معاريف" التي وصفت الوضع العام في الدولة اليهودية بأنه "في حالة ارتباك شديد وحيرة تزداد تعاظماً، فالجمهور يتراكض بذعر من هنا إلى هناك، وهو على استعداد للإمساك بكل قشة تقع في طريقه من أجل محاولة التخلص من هذا الوضع، حتى لو كان يقول الشيء ونقيضه فهو يريد هذا وذاك .. الفصل من طرف واحد والتوصل إلى اتفاق .. الحوار مع القيادة الفلسطينية وكذلك تدميرها .. والتحاور مع العرب في المناطق المحتلة وأيضاً طردهم إلى الدول العربية المجاورة ".
أما في يديعوت أحرونوت فيكتب "إيتان هابر " عن القضية بأسلوبه الخاص بعنوان " كيف سنخرج من هنا "؟
فيقول: "لقد سحقنا حتى النهاية! إنها قصة ذلك اليهودي الذي راهن صديقه على الدخول بسلام والخروج بسلام من قفص الأسود. فدخل، وعندما كشر الأسد أمامه عن أنيابه .. رسم بإصبعيه علامة النصر.
- "لماذا ترسم علامة النصر"؟ سأله اليهودي الواقف في الخارج، مرتعباً مما يراه.
- "أي نصر؟" صرخ اليهودي المتواجد داخل القفص، أنا أسأل فقط: كيف يمكن الخروج من هنا؟
"الجيش الإسرائيلي الكبير سيحقق النصر الكبير، وإذا لم يحتل نابلس وغزة وجنين وخان يونس اليوم، فسيحقق ذلك غداً. كيف نعرف أن الجيش الإسرائيلي يدرك كيف يفعل ذلك بأفضل شكل في العالم؟ لقد سبق له القيام بذلك، لقد احتل هذه الأماكن قبل (35) عاماً، وطوال الوقت تساءل جنوده وتساءل المواطنون: كيف سنخرج من هنا؟
حسب كل الاستطلاعات التي جرت مؤخراً، فإن الارتباك بين أوساط المدنيين الإسرائيليين كبير: غالبية المستطلعين يطمحون إلى "توجيه ضربة" إلى الفلسطينيين .. إلى القتل والطرد والهدم، ويوافق غالبيتهم على إخلاء مستوطنات وإقامة دولة فلسطينية. كيف يمكن ذلك؟ في دولة العجائب والأنبياء يمكن حدوث كل شيء!
في الوضعين الأمني والسياسي العاصفين حالياً تبرز بالأساس مجموعتان: (مجموعة) علامات التعجب المتطرفة التي لم تتعلم في أي مدرسة معنى علامات الاستفهام ( التي هي رمز المجموعة الثانية ).
وتضم المجموعة الأولى جانباً كبيراً من اليمين، بما في ذلك اليمين المكنى (متطرفاً أو متزمتاً)، إنها تدعي منذ سنوات كثيرة":كلها لي"، وخلال السنوات الـ35 الأخيرة قامت بعمل كل ما يمكن من أجل تطبيق ملكيتها لأرض إسرائيل .. بالنسبة للكثيرين منهم لا وجود للقضية الفلسطينية، لا وجود لثلاثة ملايين فلسطيني. إنهم يعتبرون الفلسطينيين غصناً تتقاذفه الرياح، ويجب، فقط تفعيل المروحية كي يتطايروا في كل جهة..
المجموعة الثانية التي لا تعرف ولا تريد السؤال، هي تلك المجموعة التي تعيش في إطار اليسار الأكثر احمراراً وتطرفاً. هذه المجموعة تعتبر الإسرائيليين محتلين، مضطهدين، يتدحرجون بين شوارع غزة وأزقة نابلس حاملين السكين بين أسنانهم .. هؤلاء يعتبرون الفلسطينيين محقين دائماً .. بل إن من بينهم من لا تتسبب العمليات الانتحارية بإخراجهم عن أطوارهم.
أما المجموعة الثالثة -وهي الأكبر- فهي المجموعة الصامتة والمتألمة، التي تتابع بعيون دامعة المشاهد الدامية من على شاشات التلفزيون وتتساءل: ماذا سيحدث؟ كيف سنخرج من هذا؟ هذه المجموعة مؤلفة تقريباً من ملايين المواطنين الإسرائيليين الذين يعرفون جيداً أن الشعور بالعظمة بعد حرب الأيام الستة تسبب بتخدير الحواجب والعجرفة والصفاقة، وقادنا إلى الوضع الحالي الذي يتحمل مسئوليته حزب العمل، وحزب الليكود، وكل من يقف بينهما وإلى جانبهما .. إنها المجموعة التي جربت إيهود باراك، ووضعت الآن أريل شارون في الامتحان .. إنها المجموعة التي تطالب بتوجيه ضربة لهم بالاحتلال .. بالاجتثاث .. بالتشطير، وبالسماح للفلسطينيين بإقامة دولة من خلال الإدراك بأن ثمن ذلك هو إخلاء الكثير من المستوطنات. إمكانية هذا الإخلاء تصيب هذه المجموعة الضخمة بالجنون، تماماً مثلما تصاب بالجنون عندما تشاهد صور الأولاد الذين لم يرتكبوا خطيئة، والتي تغمر الصفحات الأولى للصحف في هذه الأيام.
والمجموعة الثالثة، الكبيرة، تصمت في هذه الأيام، وتبكي فقط، لشدة الحرج". (27/6/2002)
وهكذا يظهر أن الهجرة هي إحدى محاولات الخروج من هذا النفق الذي لا نهاية له، وأن المشكلة أعمق من أن تكون قابلة لهذا الحل أو ذاك؛ لأنها مشكلة تتعلق بالمصير ذاته!!
ومن هنا نفقه الظاهرة التي تتعاظم بشكل واضح، وهي ظاهرة عبر عنها بعض الإعلاميين العرب خطأ بأنها: " يقظة ضمير "، ونعني بها: المطالبة بالانسحاب إلى داخل الخط الأخضر، والاعتراف للفلسطينيين بما هو خارجه على تعديلات أو اختلافات في التنفيذ، وأهم من ذلك: الاعتراف بوحشية الجيش اليهودي، والمطالبة بأن يكون متحلياً بالرحمة والانضباط !!
فمثلا: قاد إيهود باراك نفسه حملة الألف ضابط المتقاعدين للمطالبة بالانسحاب من طرف واحد، وجاء في استطلاع " معاريف ": أن (70%) من المستوطنين يؤيدون ذلك الانسحاب!!
وقد أعرب رئيس هيئة الاستخبارات السابق في الجيش اليهودي أورساجي عن خشيته من أن يتحول الجنود اليهود إلى حيوانات بعد أن أصيبوا بتبلد المشاعر، وتساءل: "كيف يمكن لمن قذف قنبلة تزن طناً أن ينام الليل الطويل؟!
ويقول: "علينا أن نقول لأنفسنا: إنه ليس كل شيء مباحاً، وأن ندرس عواقب أفعالنا قبل الإقدام عليها ".
كما يطالب الكاتب الصهيوني "يغال سآرنا " بالحل السملي فوراً في مقال بعنوان: "أوقفوا الدماء " قائلاً: "من هنا، أيضاً .. من داخل النهر الدامي، يمكن العودة إلى الهدوء خلال أسبوع أو شهر. يجب وقف النار، فقط في هذه اللحظة وتقديم اقتراح .. في تلك اللحظة، أو في اللحظة التي ستليها، ستنخفض النار، ومن ثمَّ ستخمد .. هذه النار ستختنق إذا لم تزود بوقود الدم، وإلا فإننا سنسير على الطريق إلى جهنم .. دم ونار .. فولاذ محترق .. صرخات الجرحى .. لعنات المتبقين .. صرخات العطشى .. قبضات المتهورين .. فوضى .. ما إن يخرج هذا للانتقام حتى يكيل له ذلك بالمكيال نفسه"!!
"وما الذي سنفعله لـ(3 أو 4) ملايين فلسطيني؟ هل سنطحنهم ونحطمهم؟ هل سنحتل ونقتل؟ هل سنكسر ونمزق؟ هل سننتقل من بيت إلى آخر بمناشير فولاذية؟ هل سنشطرهم إلى ألف جزيرة معزولة بين الشوارع الالتفافية؟ هل سنضع حاجزاً محصنًا في ساحة كل منهم؟ لا. يجب فقط وقف الدم؟ لأننا نحن الأقوياء وبأيادينا كل شيء .. لنوقف الدماء، ومن ثمَّ نتفق كيف سنخرج من عظامهم .. من ساحاتهم وحقولهم وقراهم؟ وكيف سيخرجون هم من عظامنا؟ ليس بالأباتشي ولا بمناشير الباطون، وإنما حول الطاولة وعلى الكرسي وبالورق. إذا لم يكن الآن، فربما بعد ألف قتيل ". (يديعوت أحرونوت 7/3/2002).
أما الكاتب "يهودا ليطاني " فيكتب مطالباً بالانسحاب:"من المناسب في مطلع القرن الـ(21) التفكير بطرق جديدة لمواصلة ضمان حياة كريمة للشعب اليهودي هنا، مقابل ضمان هذا الحق للشعب المجاور من خلال تقليص المس به إلى أقصى حد".
ويؤكد: أن على اليهود الاعتراف بأن الدولة أصبحت بعد كارثة (67) -أي: احتلال الضفة والقطاع) ثنائية القومية!!
فهل هذه حقاً يقظة ضمير أم أن هناك قاعدة أو سنة اجتماعية تعلل ذلك؟
والجواب كما رأينا في كل مرة موجود في كتاب الله، بيّنه الله من حال اليهود أنفسهم، فإنهم لما أبلغهم نبي الله موسى عليه السلام -بأمر الله- أن يذبحوا بقرة كانوا يعلمون أنه جاءهم بالحق وأمرهم به، ولكنهم لم يقولوا: ((الآنَ جِئْتَ بِالْحَقّ))[البقرة:71] إلا عندما ضاقت بهم الحيل عن الاستمرار في المماطلة.
وهكذا نستخرج القاعدة التالية:-
(عندما يعيد العدو -وهو معروف دائماً ببعده عن العدل والمنطق- النظر في عدالة القضية، ويبدأ في التفكير المنطقي، فإن ذلك لم يحدث نتيجة خوف الله أو يقظة ضمير .. بل نتيجة ضغوط الواقع وتأثير المقاومة!!).
وفي هذا السياق يتقمص الشعر يقظة الضمير، فتأتي قصيدة الشاعر الصهيوني المشهور "إيلي رندان " لتعبر بوضوح عن انهيار الحلم الصهيوني أمام حقائق الواقع.
يخاطب الشاعر رمزاً للهجرة الموعودة بالأحلام الصهيونية هو الفتى اليهودي الأوكراني "إسحاق" قائلاً له:
"على رسلك يا إسحاق !
إلى أين أنت ذاهب؟
إلى بلاد السمن والعسل؟
لماذا تصمت؟ أجبني! أم أن سؤالي يثيرك؟
لا بأس! أنا لن أصمت بعد اليوم.
إسحاق، لماذا يبحث الناس عن السمن والعسل؟
أليست هاتان المادتان لحفظ حياة الإنسان
وسد رمقه ورمق أطفاله؟
ولكن عندما يتطلب الحصول عليها أن يضحي المرء بروحه وأطفاله؟
فإن من يصر على الحصول عليها هو أحمق حتى في نظر البسطاء.
بالطبع تستطيع أن تأتي وستجدهم يستقبلونك أحر استقبال.
أذرع ممدودة لك، فتيات جميلات ينتظرنك عند سلم الطائرة في المطار، يقدمن لك باقات الورود..
فأنت بطل؛ لأنك عدت إلى أرض الأجداد
وقد تحظى بقبلاتهن الحارة
مسرحية كبرى ستشاهدها، وتكون أنت -غصباً عنك- أحد ممثليها
فأنت الذي أتيت لكي تُحْيِي تراث الأجداد، وتصدق النبوءات القديمة
أنت رجعت إلى وطنك بعد ألفي عام!!!
رجعت لكي تحيا فيه للأبد
كي تنهل من العسل ويطيب لأطفالك تناول سمن هذه البلاد.
هم لن يتركوك تنعم بالراحة والسكينة
لن يمهلوك كثيرا من الوقت
هم لم يخبروك الحقيقة
هم لم يخبروك الحقيقة المُرّة والقاتلة
هم لم يقولوا لك: إن هناك قوماً آخرين غيرنا يدعون أن السمن والعسل ملكهم
وأنه لا حق لنا في تناوله
هم لم يقولوا لك: إن هناك شعباً آخر
هم قالوا لك: إن هناك بعض الرعاع الذين بالإمكان معالجتهم
كما عالج العم سام الهنود الحمر في أمريكا
ويقولون لك: لماذا لا نتعلم من تجارب حليفنا الأكبر والأوثق
ونستخدم نفس الوسائل؟
نحن متحضرون صحيح
لكنه الصراع على الوجود، وكل شيء فيه مباح
عندنا اقترضوا من ميكافيلي منهجه.
بإمكانك أن تفعل ما يحلو لك.
لكنك سرعان ما تصطدم بالحقيقة المرة يا إسحاق
ستعترف بخطيئة حياتك
وستكتشف أنك أسأت لأطفالك
فهؤلاء الرعاع ليسوا هم الهنود الحمر الذين يتحدثون عنهم
هؤلاء الذين بثوا هذه الخزعبلات في ذهنك "خَوْزَقُوك" !!! حقا
هم لم يقولوا لك الحقيقة..
إن هؤلاء الرعاع لهم قدرة كبيرة في تغيير تأثير الأشياء
فالسمن والعسل اللذان يُستخدمان لرفد الإنسان بالحياة
حوّله هؤلاء الرعاع إلى سم زعاف
تستلذ بطعمه لكنك سرعان ما تتحول إلى جثة هامدة!
إسحاق! إذا كنت مصمماً على القدوم رغم نصائحي
إذا ضقت ذرعا بالحياة في "كييف"
وأردت القدوم لبلاد الفرص الواعدة ففكر مليّاً مليّاً
عليك أن تعي أنك تقدم هنا لكي تمتشق سيفك
الموت يا إسحاق مزروع في هذه البلاد
في شوارعها وفي جبالها
وفي هضابها وفي أزقتها
وفي الزرقة الداكنة لبحرها
وفي هوائها أيضا.
إسحاق! هي كما قالوا قديما:
"أرض تأكل ساكنيها"
إسحاق! لا أخفيك أنني وعلى الرغم من أنني أكفر بكل ما جاء في الكتب القديمة
فإنني أحترم أجدادنا الذين رفضوا دخول هذه البلاد مع نبيهم موسى
لقد فعلوا الشيء الصحيح
التيه في صحراء سيناء
والعيش على أوراق الشجر الشاحب
أفضل من أن تموت هكذا.
إسحاق! إذا صممت على القدوم على الرغم من نصائحي فكل الاحترام لك
أنت إنسان مقدام تستحق الاحترام
لكن علام التضحية ومن أجل أي شيء الفداء؟!!
إسحاق! سيفك لن يكون كعصا موسى التي شقت البحر
ولن يكون أحد فينا كالملك داود
لا يغررك ما يقولون
المعركة لم تنته بعد
كل حديثهم عن انتصارات خداع
لكن أي انتصارات تلك التي لم تجعل الفلسطينيين يسلّمون -على ضعفهم-
بالحقيقة التي نريدها؟
أي انتصارات تلك التي لم تقنعهم أن يتخلوا عن الإيمان بآيات قرآنهم
وبوعد الرب لهم بالنصر من جديد
إسحاق! أخي!
يخيل لي أن المعركة قد بدأت للتو..
إسحاق! أخي!
رحمة بأطفالك..
ارجع ونم!!".